مدَّونة علم من الكتاب

الأحد، نوفمبر 05، 2006

منهج العلاج بالقراءة أو الببليوثيرابيا Bibliotherapy

إن فطر الله سبحانه وتعالى بني الأنسان على التساؤل وحب الإستكشاف أتاح لهم أن ينمو كينوناتهم المعرفية وأن يندفعوا دائما نحو معرفة المزيد دون أن يجدوا اي حدود للتشبع او الأرتواء. كان العلم في القديم يقوم على (النقل) فكان التعلم والتعليم عبارة عن أفعال مقترنة بالزمان حيث يتمان وفق تتابع زمني ، وحين صارت للغات أبجديات وتمتع الإنسان بنعمة الكتابة انتقلت المعرفة من حيز الزمان إلي حيز المكان وصار الحفظ والتوثيق والاسترجاع والنشر مماهو متاح على اوسع نطاق ، وبذلك أمكن للناس أن يطوروا معارفهم على نحو مدهش.

إن هناك دواعي كثيرة للواحد منا أن يتعلم ، ويقرأ ، ويكتسب الخبرات مدى الحياه منها:

• أن الذي يدعو الإنسان الي مزيد من التعلم هو العلم نفسه ، إذ أنه كلما زادت المعرفة، ضاقت منطقة المجهول.
• لم يكن لدى الناس قديماً إحساس قوي بإرتباط كسب الرزق بمدى ما يحصٌلونه من علم ، لكن الوضع قد تغير اليوم حيث تتضاءل على نحو متصاعد المهن والوظائف التي يمكن للأميين ومحدودي الثقافة الإضطلاع بها.
• إن العقل البشري يميل دائماً الي تكوين عادات ورسم أطر لعمله ، وهي مع مرور الوقت تشكل نوعا من البرمجة له وكلما كانت ثقافة الأنسان ضحلة ، وكانت مصادر معرفته محدودة ، ضاقت مساحة تصوراته وأصبح شديد المحلية في نماذجه وآرائه عاجزاً عن تجاوز المعطيات الخاطئة التي تشرٌبها من مجتمعه، والقراءة الواسعة ، والأطلاع المتنوع هو الذي يعظٌم الوعي لديه من خلال المقارنة وامتداد مساحات الرؤية وقد كان علما السلف ، لا يثقون بعلم العالم الذي لم يرحل ولم يغبٌر قدمية في طلب العلم إدراكاً منهم لمخاطر البرمجة الثقافية القائمة على معطيات محلية محدودة.
• التدفق الهائل للمعلومات وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع مستمر ، وتراكم منتجات البحث العلمي في اتساع مستمر ، والنتيجة المباشرة لذلك هي تقادم ما بحوزتنا من معارف ومعلومات ، وتفيد بعض التقديران أن نحو من 90% من جميع المعارف العلمية قد تم استحداثه في العقود الثلاثة الأخيرة. وسوف تتضاعف هذه المعارف خلال نحو 12 سنه.

وبعد ، فإذا كانت القراءة أهم وسيلة لإكتساب المعرفة ، وإذا كان إكتساب المعرفة أحد أهم شروط التقدم الحضاري ، فإن علينا ألا نبخل بأي جهد يتطلبه توطين القراءة في حياتنا الشخصية وفي حياة الأمه عامه ، فالمسألة ليست كمالية ولا ترفيهية ، إنما مسألة مصير.

يرى المختصون في علم النفس أن جوهر العلاج بالقراءة يتمثل في أن تتم قراءة كتب بالطريقة نفسها التي يتم بها إعطاء الأدوية في الروشتة العلاجية ، حيث أن العلاج بالقراءة هو علاج الأضطرابات النفسية والعصبية عن طريق قراءة كتب مختارة ، وهو أسلوب من اساليب تخفيف تلك الاضطرابات عن طريق القراءة ، وسنشرح أسس و أساليب وطرق وأهداف العلاج بالقراءة بشئ من التفصيل في الحلقات القادمة إنشاء الله ، وكما قال الكاتب الأمريكي كريستوفر مورلي: "إنك عندما تبتاع لشخص كتاباً ، فأنت لم تبتع له عشرة أوقيات من الورق والحبر والصمغ ، وإنما إبتعت له حياة كاملة جديدة"

إن هذا العلم الذي يبدو للبعض ساذجاً أو أقرب إلى التقليعة منه إلى العلوم ذات الأسس المتينة والواضحة المعالم والنتائج يخطئ كثيراً. فالعلاج بالقراءة، كعلم له أصوله وشروطه، وهو ليس مجرد دعوة مفتوحة لكل المرضى لتناول جرعات من الكتب التي يجدونها في متناولهم، بل على العكس تماماً، فالعلماء يحذرون من اعتباطية التعاطي مع الكلمة المكتوبة بالنسبة لأصحاب الأمراض العضوية أو النفسية، ويطالبوننا باستشارة الطبيب المتخصص. ومن خلال معرفة هذا الأخير بحالة مريضه يستطيع تزويده بتقرير مفصّل يحدد حالته ونوعية الكتب التي يحتاجها، والأهداف التي يتوجب الوصول إليها. ثم ينقل المريض التقرير بعد ذلك إلى مرشد القراءة المتخصص، الذي يفترض فيه انه على دراية دقيقة بالكتب، بحيث يحضّر من خلال بحث متأنٍ لائحة بالعناوين التي تتناسب ووضع المريض أو يزوده بها مباشرة. ويبقى التداول والتنسيق قائماً، خلال فترة العلاج، بين الطبيب الذي يقدّر مدى تطور الحالة والمرشد الذي قد يلجأ إلى تعديل اللائحة، بحسب ما تستدعيه الحاجة، إلى ان يصل المريض إلى برّ الأمان. ويحذر العلماء من قراءات غير مدروسة قد تسيء إلى وضع المريض وتؤدي إلى تدهور حالته، إما لأن المريض لا يملك القدر الكافي من الوعي لفهم ما يقرأ أو لأن اختيارات الكتب كانت غير موفقة، وتسببت بردود فعل سلبية لدى القارئ تجعله يقاوم العلاجات المعطاة له بدل ان يتفاعل معها.
ومن الأمراض التي تعالج بالقراءة حالات القلق، المشاكل الجنسية، ترميم الشخصية، الفوبيا على أنواعها، تعاطي المخدرات، الإنطواء، السمنة، التوتر، إضافة إلى العديد من الأمراض العضوية، التي تسهم القراءة في توعية صاحبها وجعله مدركاً لوضعه وأساليب علاجه والسبل التي تسهم في تحسين حالته. وقد تطور هذا العلم في أميركا، بفضل تقدم علوم المكتبات وتفرع تخصصاتها، وتمفصلها مع تطور مشابه في ميادين التحليل النفسي. وقد استخدم مصطلح ببليوثيرابيا للمرة الأولى عام 1949 يوم نشرت أول نظرية علمية متكاملة في الموضوع، ليشهد عقد الستينات قفزة نوعية على الأرض، لمست نتائجها العملية، في المصحات النفسية والمدارس والسجون ورياض الأطفال والاصلاحيات والمستشفيات. ورغم ان الكثير من الأطباء ما يزالون يفشلون في الإفادة من العلاج بالقراءة، إلا ان عشرات الدراسات التي أنجزت ونشرت في العقود الأربعة المنصرمة تؤكد عل حقيقتين هامتين كما يقول المؤلف: ارتباط الطب فعلياً بالببليوثيرابيا وتزايد ايمان الاختصاصيين بفعالية هذا العلم. وهكذا ترى ان ثمة علوماً يولد واحدها من بطن الآخر، فمن دون التخصصات في علوم المكتبات بتفرعاتها لم يكن علم الببليوثيرابيا ليبصر النور، ومن غير التطبيقات التي أجراها الأطباء على مرضاهم وتوثيق تجاربهم في الدوريات العلمية على مدى عقود، ما كنا لنعرف فعالية القراءة أو وظيفتها. وانتشار المكتبات العامة في المؤسسات الطبية والتعليمية، سهل المضي في التجارب، واختبارها عن قصد أو حتى عن غير قصد. وبات لهذا العلم انصار ومتخصصون وعشاق. ولكن ما يجعل علماً من هذا القبيل صعباً تطويره أو تعميمه في المجتمعات العربية، ومستعصياً الأخذ به ـ ولو أفلحنا في استيراد نظرياته ـ هو وجود سبعين مليون أمي وما يوازيهم ويزيد عنهم من أنصاف الأميين. وكلام من هذا القبيل لا يريد إثباط الهمم، وإنما التأكيد على ان المسير إلى الأمام يتطلب دفعاً من كل الاتجاهات. ويؤكد الدارسون ان قراءة الأساطير القديمة التي استخدمت منذ العصور اليونانية لتعليم الناس الأخلاق والتهذيب، رغم ما تنطوي عليه من رمزية ومعان عميقة، اتضح ـ بعد التجريب ـ ان لا تأثير لها يذكر على المرضى المعاصرين، وعلى العكس منها فقد تمت الإفادة من دواوين الشعر والروايات وكتب الحقائق، والقصص بما فيها قصص الخيال العلمي، وكذلك الكتابات العلمية البحتة، والتاريخ كما الرحلات، وثمة من ينتفع بقراءة الكتب الدينية، ولكل نفسٍ متطلباتها. فقد ظهر مثلاً ان كتب التراجم تفيد بنجاح كبير في رفع درجة الوعي وإيقاظ الضمير عند الكبار، لكن مفاعيلها سلبية عند الصغار. وقد اختبرت القراءة الصامتة، والقراءة بصوت عالٍ، كما جرّبت القراءة للمرضى من خلال أندية للشعر مثلاً. ومن الطرق المستخدمة مناقشة المريض بالمادة التي قرأها إما منفرداً أو في جلسات جماعية يتداول خلالها الآراء والتحليلات مع من لهم أوضاع مشابهة. إذ ان غياب الأخذ والرد وترك القارئ من دون تزويده بالإيضاحات والتعليقات، قد يجره إلى تأويلات غير التي يطمح المعالج إليها. وينصح المعالجون بإعطاء المريض الإحساس الكامل بالحرية، إن لناحية اختيار الكتب التي يريد أو الإفادة منها بالطريقة التي يحب، بحيث تأتي التوجيهات خفرة لا تترك انطباعاً بالتسلط أو النصح المباشر. وقد يكون ما هو أهم من الوظيفة العلاجية لهذا العلم، الذي تبلورت ملامحه بتسارع واضح في السنوات الأخيرة، دوره الوقائي. إذ اتضح ان إعطاء التلامذة في المدارس الكتب التي تتناسب وشخصياتهم كما حاجاتهم الذاتية، والتي تجيب عن أسئلتهم، أو تقوّم المعوج في شخصياتهم، وذلك من خلال معرفة حميمة وذاتية بكل منهم، يساعد إلى حد بعيد في تنمية أشخاص أسوياء يتغلبون على العلل التي قد تتلبسهم قبل تمكنها من نفوسهم.


 
جميع الحقوق محفوظة لعلم من الكتاب 2008
Creative Commons License
غير قابل للنسخ او الطباعة او إعادة النشر إلا بأذن من الكاتب